الجمعة، 15 مايو 2009

موكب و حمار وغبار!!




أعلن الإمام عصرا لمن حضر صلاة الجماعة أنه سيذهب برفقة نفر يثق بهم لزيارة الأم المغدورة بعقوق ابنها ليقدم لها ما جادت به نفوس سكان القرية، بعد أن أكمل عملية الترتيبات واقترح على الأستاذ أن يكون ضيف الشرف بحكم علاقته القديمة بهذه الأسرة ،حين كان صارم أحد تلاميذه ،-قبل أن تتوتر العلاقة بسبب آراء صارم الحادة وجرأته على معارضة أفكار الأستاذ وأمام طلبته ونقده المستمر لإدارة المدرسة.


انتشر الخبر بسرعة كبيرة في أرجاء القرية ونوافذها، وأعد الإمام موكبا مكون من حمار واحد ضخم الجسم محمل بأكياس لم يعرف ما في داخلها، وحمل الأشخاص المرافقين أكياسا أخرى، في موكب مهيب، كان بعض المارة ينظرون إلى الموكب بمشاعر مختلفة ومتفاوتة، لكن الإمام كان يمشي بزهو وابتسامة، هي أقرب إلى ابتسامة قائد خرج لتوه من حرب يحمل غنائمها في قافلته المنصورة.صورة القرية عصر ذلك اليوم الشديد الحرارة، لا توحي بشيء على الإطلاق، لا مشاعر، ولا مظاهر يمكن أن توحي بنوع من التعبير، فقط ابتسامة إمام ، ومرافقين تبدو ملامحهم كأنهم، كتيبة حرب مصغرة أو حراس شخصين، ملامح تأخذها حماستها لتتفوق على كونهم متعاونين لعمل خير.

وطبعا صوت أقدام حمار تضرب على أرض ترابية ولتقذف بحصاة من هنا وهناك، لينطلق غبار كثيف يحف قافلة الإمام.صوت حركة اقدام الموكب يعم القرية،غيرها ،لا اصوات البتة،حتى الحمار كان صامتا أيضا، رأسه متدلي إلى أسفل، كأنه خجل من رؤية الناس أو من شيء ما، ويسير بدون تردد أو التفاتة، وكأن الحمار يعرف ماذا عليه أن يفعل، أن يتبع المشاة، أن يتبع حركات أقدامهم، التي تظهر له من الأسفل، وهي تنثر التربة بإهمال،الأطفال وحدهم كانو فرحين بالحركة، والركض حول الموكب ومداعبة الحمار ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.


حين وصل الموكب إلى مبتغاه، إلى المحطة المقصودة، تقدم الأستاذ ليدق على الباب، طرق مرة، مرتين، ثلاث، لم يجبه أحد، لتظهر عصبية الإمام قليلا، وهو يرى مزيد من التجمهر ولفت الانتباه للسكان، تنحنح، كح، كرر نفس الأداء، رفع صوته:"يا امة الله...".لم يجب أحد..أعاد الأستاذ، المحاولة، طرق الباب..خرج السكان المجاورين، تسمروا أمام أبواب منازلهم، أصبح المشهد عاما بالكامل، وصل التجمهر مداه، والبعض الآخر يطل من فتحات ونوافذ جدران منازلهم العلوية والسفلية، حتى الحمار رفع رأسه يراقب المشهد.كرر الأستاذ نفس الأداءطرق الباب، مرة، مرتين، ثلاث...صمت في كل المكان، وصمت فاصل ثقيل وبطيء، ترقب لأجواء تثقلها أنفاس المترقبين والمطلين برؤوسهم من كل الزوايا والأركان لمتابعة تفاصيل المشهد.فتح الباب، نصف الباب.

طل رأس، ظهر أنه جزء من رأس امرأة، أرهقها الزمن والأحداث، واللحظة الراهنة.

لم تقل أي شيء.بدء الإمام يتحدث، كما يفعل في كل مواعظه، نفس المقدمة ونفس الخاتمة، مع تغير أسطر معدودة في الوسط حسب الحاجة والموقف، مضي في حديثه:

"..... وأهل القرية جادوا مما منحهم الله الكريم، هاهي القرية تقف معك، والمؤمنون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، ويفرج بعضهم عن البعض الآخر....."استمر في الحديث قبل أن يدرك أن هناك صوت يتحدث إليه بحزم ووضوح وعلو وكبرياء، يحرق الكلمات أو يستحضرها بعزم:


"القرية يا إمام منذ خلقت وهي تفعل هذا وأكثر، من قبل أن تطل بأطراف قدميك الصغيرة والعارية عليها في يوم، لا يمكن أن يكون إلا يوم نحس.القرية أولا، أولا وقبل كل شىء، ولدت من أجل أن نولد فيها، وضعت قوانينها وأصولها بنفسها، وضعها أناس طيبين، انغمروا بالطين، وتلحفوا الرمل، وغرسوا أطرافهم في هذه الأرض، لتنبت من جديد حقول زيت وكبرياء، القرية يا إمامنا قبلنا جميعا، نحن من أتى بعدها، ونحن من يحاول تحريف القرية عن مسارها.

أنت لا تعلم ماذا أعد لي ابني قبل أن يهرب من جحيم أدخلته أنت فيه، لقد ترك لي ما احتاج لسنة أو تزيد!. لكنك- كما كنت وكما ستبقى- لا تعرف إلا ما يدور ويتكون في خيالك الأسود في جمجمتك الرطبة، إن كان في هذا الرأس شيء يستحق أن يذكر.

ما أحضرته لا حاجة لي فيه، لأنك أحضرته يا إمام، من لعنات ابني، من دعاء إلى ربك وحدك عليه بعظائم الأمور، كيف تتمادى في محرابك ومنبرك تجرح أم وتدمي جراحها، كم صلاة خصصتها لأبني، وجمعة ليس لك هم في خطبتك، خطبة جمعتنا التي كانت قبل أن تحرف قداستها ووظيفتها إلا ابني، ابنى الذي هجر بسببك، وسبب لعناتك وتحريضك، كيف تقطع أوصالي وقلبي، كل ليل ونهار، ثم تأتي الآن على رؤوس الأشهاد وكأنك المنقذ المخلص لعذابات الدنيا، أنت العذاب ومصدره، الجرم والجريمة، وذنب ابني وذنبي في رقبتك، إن بقي فيها مكانا، الذنب في رقبتك إلى يوم الدين.......".


أغلقت الباب بعنف، اهتزت له كل بيوت القرية، سحابة سوداء حلت فوق الجميع، صمت قاتل وثقيل، لم يوقف فاصله إلا نهيق الحمار، الذي شعر بالعطش من شدة الحر.انتبه الإمام وكأنه لازال قادم من عالم آخر، تطلع حوله سريعا، وجد كل العيون مركزة عليه، ارتبك قليلا، بلع ريقه، أعاد توجيه الموكب بالاتجاه الآخر، اتجاه العودة، اكتفي بترديد أذكار وأدعية، بصوت بالكاد يلتقطه من يمر بهم في طريق العودة.


لم ير أحد الأستاذ مع الوفد المرافق في طريق العودة، لم يلمحه احد، كان الإمام ومرافقيه المقربين والحمار حاملا تلك الأكياس السوداء التي لم يعرف ما حوت، كما لا يمكن التنبؤ بما تخفيه خلف هذا اللون الأسود القاتم.

في طريق العودة اتجهوا مباشرة إلى المسجد.....

ليست هناك تعليقات: